فصل: فصل في ذكر طرق مما حدث في بعض السنين من الأزمية والأمراض:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: موارد الظمآن لدروس الزمان



.فصل في ذكر طرق مما حدث في بعض السنين من الأزمية والأمراض:

أْجْدَبَتِ الأَرضُ في سنةِ ثماني عشرة فكانت الريحُ تسفِي تُرابًا كالرماد فسُمِّي عامَ الرمادة وجعلتِ الوحُوشُ تَأْوِي إلى الإنس، فآلىَ عُمَرُ ألا يذوق سمنًا ولا لبنًا ولا لحمًا حتى يحيى الناسُ واستسقَى بالعباس فَسُقُوا.
وفيها كان طاعون عَمَواسٍ مات فيه أبُو عُبيدةَ، ومُعَاذُ، وأَنسُ وفي سنة أربع وستين وقع طاعون بالبصرة وماتَتْ أُمُ أمِيرِهِم فما وَجَدُوا من يَحْمِلَها.
وفي سنة ست وتسعين كان طاعون الجارف هَلكَ في ثلاثة أيامٍ سَبْعُونَ ألْفًا وماتَ فيه لأَنَسٍ ثَمَانُون ولَدًَا وكانَ يموتُ أهلُ الدارِ فَيُطَيَّنُ البابُ عليهم.
وفي سنة إحدى وثلاثين ومائة ماتَ أول يوم في الطاعون سَبْعُونَ ألْفًا في الثاني نَيِّفٌ وسبعون ألفًا وفي الثالث خمد الناس.
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاث مائة ذُبِحَ الأطفالُ وأُكِلَتُ الجيفُ وبيعَ العَقَارُ بِرُغْفَان واشْتَرى لِمُعِزِّ الدَّوْلَة كَرُّ بِعَشْرِينَ أَلفٍ دَرهم.
وفي سنة أربع وأربعين وثلاثمائة أصابَ أهل البصرةِ حَرٌّ فكانوا يتساقطون مَوْتَى في الطُّرقَاتِ.
وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عَمَّ القحْط فأُكِلتِ الميتةُ وبلغ المكوك من بزر البقلة سَبْعَ دَنَانِير، والسفرجَلَةُ، والرمانةُ دِينَارًا، والخيارةُ واللينوفرةُ دينارًا، وَوَرَدَ الخبرُ من مِصر بأن ثلاثةً مِن اللُّصُوص نَقَبُوا دَارًا فوُجِدُوا عندَ الصباح مَوْتَى أحَدُهم على بابِ النقبِ، والثاني على رَأْسِ الدَّرَجَةِ، والثالثُ على الثياب الْمُكَوَّرَةِ.
وفي السنة التي تليها وقعَ وَبَاءٌ فكان تُحْفَرُ زِيبةٍ لِعَشْرِينَ وَثَلاثِينِ فَيُلْقَونَ فِيها وتابَ الناسُ كُلُّهم وَأَرَاقُوا الخمورَ وَلزِمُوا المساجدَ.
وفي سنة ستٍ وخمسينَ وأرْبِعِمِائةٍ وَقَعَ الوَبَاءُ وَبَلَغَ الرطلُ من التمرِ الهِندي أربعةَ دَنانير وفي سنة اثنتين وستين وأربعمائة اشتد الجُوعُ والوَبَاءُ بِمِصْرِ حتى أَكلَ النَّاسُ بَعضُهم بَعْضًا وبيع اللَّوزُ وَالسُّكَّر بِوَزْنِ الدَّرَاهِم والبيضةُ بِعَشْرَةِ قَراريط وَخَرَجَ وَزِيرُ صَاحِب مَصْر إليه فنزلَ عَنْ بَغْلَتِهِ فأخَذَهَا ثَلاثَة فأَكَلُوها فَصُلَبُوا فأَصْبَحَ الناسُ لا يَرَوْنَ إلا عِظَامَهُمَ تَحْتَ خَشَبِهِم وَقَدْ أُكِلُوا.
وَفِي سَنة أربع وستين وأربعمِائة وقعَ الموتُ في الدوابِ حَتَّى إِنَّ رَاعِيًا قامَ الغنمِ وَقْتَ الصباحِ لِيَسُوقَهَا فَوَجَدوهَا كُلَّها مَوْتَى. ذكر ذلك ابن الجوزي رحمه الله.
وفي سنة أربع وثلاثين وثلاثمائةٍ وَقَعَ غَلاءٌ شَدِيدِ ببغداد حتى أَكَلُوا الميتةَ وَالسَّنَانيرَ والكلابَ، وَكَان مِن النَّاس مَنْ يَسْرِقُ الأولادَ فَيَشْوِيهِم ويأَكْلُهُم.
وَكَثُرَ الوَبَاءُ في الناس حتى كان لا يَدْفُنُ أحَدٌ أَحَدًا بَلْ يُتْركُونَ على الطرق فَيَأَكلُ كَثِيرًا منهم الكلاب.
وبِيعَةُ الدُّور بالخُبْزِ وانْتَجَع الناسُ إلى البَصْرة فكان منهم من ماتَ في الطريق.
وذَكَرَ رحمه الله أن في سنة اثنتين وثلاثين وثلاثمائة في جماد الأولى غَلَتِ الأسعارُ ببغداد جِدًا وكَثُرت الأمطارُ حَتى تهدم البناء ومات كَثيرٌ مِن الناس تحتَ الهدم وتَعَطَّلَت أكثرُ المساجد مِن قلة الناس.
وَنَقَضَتْ قيمةُ العقار حتى بيع منه بالدرهم ما يُسَاوي الدينار وخَلَت الدُّور وكان الدَّلالُون يُعْطُونَ مَنْ يَسْكنُها أُجْرَةً لَيَحْفَظَها مِن الداخلين إليها ليُخَرِّبُوهَا.
وكَثُرَتِ الكَبَسَاتُ مِن اللَّصُوص بالليل حتى كان الناس يَتَحَارسُون وكُثرتِ الفِتنُ مِن كُلِّ جِهة فإِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ. اهـ.
وفي سنة ثلاثٍ وثلاثين وخمسمائة كانت زَلْزَلَةٌ عظيمةٌ بمدينةِ جَبْرَتْ فماتَ بِسَبَبِهَا مائتا ألف وثلاثون ألفًا وصَار مكانها ماءً أسودَ عَشَرَةَ فَرَاسِخَ فِي مثلها.
وزُلْزلَ أَهلُ حَلَب في لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ ثَمانينَ مَرَّة فوضعَ السلطانُ مَحْمُودُ مُكُوسًا كثيرةً على الناس وكَثُرِت الأدعيةُ لَهُ.
قال: وفي سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة كانت زلزلةٌ عظيمةٌ بالشام هَلَكَ بسببها خَلْقٌ كثير لا يَعلَمُهم إلا الله.
وتَهدَّمَ أكثرُ حَلَب وحَماة وشِيرز وحِمص وكَفَر طَابَ وَحِصْن الأكراد والْمَعَرَّة وقَامِيَة واللاذقِيَّة وأنطاكية وطَرَابُلس.
قال: وقال ابنُ الجوزي: وأما قَامِية فَسَاخَت قَلْعَتُهَا، وتل حران انقسم قسمين فأبْدَى نَوَاوِيسَ وبُيوت كثيرة في وسطه.
وتَهَدَّمَتْ أَسْوَارُ أكثرِ مُدُنِ الشَّامِ حتى أن مَكْتبًا مِن مدينة حَماة انْهدم على مَن فِيهِ مِنْ الصغار فَهَلَكُوا عن آخِرهم.
وفي سنة أربع وعشرين ومائتين زلزلة فرغانة فمات فيها خمسة عشر ألفًا.
وفي السنة التي تليها رجفت الأهوازُ وَتَصَدَّعَتِ الجبالُ وهَرَبَ أَهْلُ البلد إلى البحر والسفن ودامت ستة عشر يومًا.
وفي السنة التي تليها مطر أهل تيما مطرًا وبردًا كالبيض فقتل به 370 إنسانًا. وسمع في ذلك صوت يقول: ارحم عبادك، اعف عن عبادك. ونظروا إلى أثر قَدِمٍ طولها ذراعٌ بلا أصابع وعَرْضُهَا شِبْرٌ وبين الخطوتين خمسة أذرع أو ستة. فاتبعوا الصوت فجعلوا يسمعون صوتًا ولا يرون شخصًا.
وفي سنة 233 رجفت دمشق رجفة انقضت منها البيوت وسقطت على من فيها فمات خلق كثير. وأنكفأت قرية في الغوطة على أهلها فلم ينج منهم إلا رجل واحد. وزلزلت أنطاكية فمات منها عشرون ألفًا.
وفي السنة التي تليها هبت ريح شديدة لم يعهد مثلها فاتصلت نيفًا وخمسين يومًا. وشملت بغداد والبصرة والكوفة وواسط وعبادان والأهواز، ثم ذهبت إلى همدان فأحرقت الزرع، ثم ذهبت إلى الموصل فمنعت الناس من السعي وتعطلت الأسواق، وزلزلت هراة فوقعت الدور.
وذكروا أشياء كثيرة غريبة عجيبة يطول ذكرها اقتصرنا منها على هذا الطرف اليسير الذي ربما يكون سببًا للاعتبار والتيقظ والرجوع إلى الله.
نسأل الله الحي القيوم العلي العظيم الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد أن يوقظ قلوبنا ويستر عيوبنا ويغفر ذنوبنا ويثبتنا على قوله الثابت في الحياة الدنيا والآخرة إنه سميع قريب على كل شيء قدير.
صَرَفْتُ إلى رَبِّ الأَنَامِ مَطَالِبِي ** وَوَجَّهْتُ وَجْهِي نَحْوَهُ وَمَآرِبِي

إلى الْمَلِكِ الأَعْلَى الذِي لَيْسَ فَوْقَهُ ** مَلِيكٌ يُرَجَّى سَيْبُهُ في الْمَتَاعِبِ

إلى الصَّمَدِ البَرِّ الذِي فَاضَ جُودُهُ ** وَعَمَّ الوَرَى طُرًا بِجَزْلِ الْمَوَاهِبِ

مُقِيلفْي إِذَا زَلَّتْ بِي النَّعْلُ عَاثِرًا ** وَأَسْمَحَ غَفَّارٍ وَأَكْرَمْ وَاهِبِ

فَمَا زَالَ يُولِينِي الْجَمِيلَ تَلَطُّفًا ** وَيَدْفَعُ عَنِّي فِي صُدُورِ النَّوَائِبِ

وَيَرْزُقْنِي طِفْلاً وَكَهْلاً وَقَبْلَهَا ** جَنِينًا وَيَحْمِينِي وِبِيَّ الْمَكَاسِب

إِذَا أَغْلَقَ الأَمْلاكُ دُونِي قُصُورَهُمْ ** وَنَهْنَهَ عَنْ غِشيانِهِمْ زَخْرُ حَاجِبِ

فَزِعْتُ إلى بَابِ الْمُهَيمِنِ طَارِقًا ** مُدِلاً أُنَادِي باسْمِهِ غَيْرَ هَائِبِ

فَلَمْ أَلَفِ حُجَّابًا وَلَمْ أَخْشَ مِنْعَةً ** وَلَوْ كَانَ سُؤلِي فَوْقَ هَامِ الكَوَاكِبِ

كَرِيمٌ يُلَبِّي عَبْدَهُ كُلَّمَا دَعَا ** نَهَارًا وَلَيْلاً في الدُّجَى وَالغَيَاهِبِ

سَأسْألَهُ مَا شِئْتُ إِنَّ يَمِينَهُ ** تَسِحُّ دِفَاقًا بِاللُّهَيِّ وَالرَّغَائِبِ

فَحَسْبِي رَبِّي الْهَرَّاهِزِ مَلْجًأ ** وَحِرْزًا إِذَا خِيفَتْ سِهَامُ النَّوَائِب

اللَّهُمَّ انْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَعَلِّمْنَا مَا يَنْفَعْنَا وَوَفِّقْنَا لِلْعَمَلِ بِمَا فَهَّمْتَنَا اللَّهُمَّ إِنْ كُنَّا مُقَصِّرينَ فِي حِفْظِ حَقِّكَ وَالوَفَاءِ بِعَهْدِكَ فَأَنْتَ تَعْلَمُ صِدْقَنَا فِي رَجَاءِ رِفْدِكَ، وَخَالِص وُدِّكَ، اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَا مِنَّا فَبِكَمَالِ جُودِكَ تَجَاوَزْ عَنَّا، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ. اللَّهُمَّ وَفِقنا لِمَا وَفَّقْتَ إِلَيْهِ القَوْم وأيْقِظْنَا مِن سِنةِ الغَفْلَةِ وَالنَّوْم وَارزِقْنَا الاستعدادَ لذَلِكَ اليَوْم الذي يَرْبَحُ فيه المُتَّقُونَ، اللَّهُمَّ وعامِلنَا بإِحْسَانِكَ وَجُدْ علينا بِفَضْلِكَ وامْتِنَانِكَ واجعلنا مِن عِبادِكَ الذين لا خَوفٌ عليهم ولا هُمْ يَحْزَنُون، اللَّهُمَّ ارحَمْ ذُلَّنَا بَيْنَ يَدَيْكَ واجعلْ رَغْبَتَنَا فِيما لَدَيْكَ، ولا تَحرِمِنَا بِذُنوبنا، ولا تَطْرُدْنَا بعُيوبِنا، وَاغْفِرْ لَنَا وَلِوالِدَيْنَا وَلِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
فصل:
وقَالَ الشَّيخُ مُحَمَّدٌ بن إبْرَاهِيمَ في رَدّه على مُحَكِّمِي القَوَانِين: إنَّ مِنَ الكُفْر الأكْبَرَ الْمُسْتَبِينِ تَنْزيلُ القَانُونِ اللَّعِينِ مَنْزِلَةَ مَا نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ عَلَى قَلْبِ محمدِ صلى الله عليه وسلم لِيَكُونَ مِنْ الْمُنْذِرِين بلسانٍ عَربي مبينٍ في الحُكْمِ بِهِ بَيْنَ العالمين والرَّدِ إلَيْهِ عِنْدَ تَنَازُع المتنازعين مَنَاقَضَةً وَمُعَانَدَةً لِقَوْلِ الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}.
وَقَدْ نَفى اللهُ سُبْحَانَهُ وَتَعالى الإيمانَ عَنْ مَنْ لَمْ يُحَكِّمُ النَّبِيَ صلى الله عليه وسلم فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهِمْ نَفْيًا مُؤكَّدًا بِتَكَرُّرِ أَدَاةَ النَّفْيِ وَبِالقَسَم قالَ تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}.
قَالَ: وَتَأَمَّلْ مَا في الآية الأولى وَهِيَ قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ} الآية، كَيْفَ ذَكَرَ النَّكِرَةَ وَهِيَ قَوْلُه: {شَيْءٍ} في سِيَاق الشَّرطِ وَهو قوله جَلَّ شَأْنُهُ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} المفيدُ العُمُومِ فِيمَا يُتَصَوَّرُ التَّنَازُع فيه جِنْسًا وَقَدْرًا.
ثُمَّ تَأَمَّلْ كَيْفَ جَعَلَ ذَلِكَ شَرْطًا في حُصُولِ الإيمانِ بِاللهِ واليومِ الآخر بقولهِ: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} ثُمَّ قَالَ جَلَّ شَأْنه: {ذَلِكَ خَيْرٌ} فَشَيْءُ يُطْلِقُ اللهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ خَيْرٌ لا يَتَطَرَّقُ إِلَيْهِ شَرٌّ أَبَدًا بَلْ هُوَ خَيْرٌ مَحْضٌ عَاجِلاً وَآجِلاً.
ثُمَّ قَالَ: {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}، أي: عَاقِبةً في الدُّنْيَا والآخرةِ فَيُفِيدُ أَنَّ الرَّدَ إلى غَيْرَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم عِنْدَ التَّنَازُع شَرٌّ مَحْضٌ وَأسْوأ عَاقِبةً في الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ عَكْسَ مَا يَقُولُهُ الْمُنَافِقُونَ: {إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} وَقَوْلِهِمْ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ}.
وَلِهَذَا رَدَّ اللهُ عليهم قَائِلاً: {أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ} وَعَكْسُ مَا يَقُولُهُ القَانُونِيُّونَ مِنْ حُكْمِهِم عَلَى القَانُونِ بِحَاجَة العَالَم بَلْ ضَرُورَتِهم إلى التَّحَاكُمْ إِلَيْهِ وَهَذَا سُوءُ ظَن صِرْفٌ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَمَحْضُ اسْتنِقاصٍ لِبَيان الله ورَسوله والحكم عليه بعدم الكِفَايَةِ للنَّاسِ عِنْدَ التَّنَازِعُ وَسُوءِ العَاقِبَةِ في الدُّنْيَا والآخِرَةِ إِن هَذَا لازِمٌ لَهُمْ.
قالَ: وَقَدْ نَفَى اللهُ الإيمانَ عَنْ مَنْ أَرَادَ التحاكُم إلى غَيرِ مَا جَاء بهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم مِنْ المنافقينَ كَمَا قالَ تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً}.
فإنَّ قَوْله: يَزْعُمُونَ تَكْذِيبِ لَهُمْ فِيمَا ادَّعَوهُ مِنْ الإيمَانِ فَإِنَّهُ لا يَجْتَمِعُ التَّحَاكُمِ إلى غَيرِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُ صلى الله عليه وسلم مَعَ الإِيمَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَصْلاً بَلْ أَحَدهُمَا يُنَافِي الآخَرَ وَالطَّاغُوتُ مُشْتَقٌ مِنْ الطُّغْيَانِ وَهُوَ مُجَاوَزَةُ الحَدِّ فَكُلُّ مَنْ حَكَمَ بِغَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَوْ حَاكَمَ إلَى غَيْرِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِي صلى الله عليه وسلم فَقَدْ حَكَمَ بالطَّاغُوتِ وَحَاكَمَ إِلَيْهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ مِنْ حَقَّ كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ إلى خِلافِهِ فَقَدْ طَغَى وَجَاوَزَ حَدَّهُ حُكْمًا أَوْ تَحْكِيمًا فَصَارَ بِذَلِكَ طَاغُوتًا لِتَجَاوُزِهِ حَدّه.
قَالْ: وَتَأَمَّلْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَدْ أُمِرُواْ أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} تَعْرِفُ مِنْهُن مُعَاندةَ القَانُونِيّينَ وَإِرَادَتَهُمْ خِلافَ مُرادِ اللهِ مِنْهُم حَوْلَ هَذَا الصَّدَدِ فَالْمُرَادُ مِنْهُمْ شَرْعًا وَالذِي تُعِبِّدوا بِهِ هُوَ الكُفْرُ بالطَّاغِوتِ لا تَحْكِيمُهْ {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ}.
ثُمَّ تَأَمَّلْ قَوْلِهُ: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} كَيْفَ دَلَّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ ضَلالٌ وَهَؤلاِء القَانُونِيُّون يَرْوَنَه مِن الْهُدى كَمَا دَلّتِ الآيَةُ على أَنَّهُ مِنْ إِرَادَةِ الشَّيْطَانِ هِيَ عَكْسُ مَا يَتَصَوَّرَهُ القَانُونِيُّونَ فَتَكُونُ عَلَى زَعمِهم مُرَادَاتُ الشَّيْطَانِ هِيَ صَلاحُ الإِنْسَانَ وَمُرَادُ الرَّحْمَنِ وَمَا بَعَثَ بِهِ سَيِّدَ وَلَدِ عَدْنَانَ مَعْزولاً مِنْ هَذَا الوصفِ وَمُنَحَّىً عن هَذَا الشَّأن.
وَقَدْ قَالَ تَعَالى مُنْكِرًا عَلَى هَذَا الضَّرْبَ مِنَ النَّاسِ وَمُقَرِّرًا ابْتِغَاءَهم أَحْكَامَ الْجَاهِليةِ وَمُوَضِّحًا أَنَّهُ لا حُكْمَ أَحْسَنُ مِنْ حُكمِهِ: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
فَتَأَمَّلْ هَذِهِ الآيةُ الكريمة وَكَيفَ دَلَّتْ أَنْ قِسْمَةَ الْحُكْمِ ثُنَائِيَّةْ وَأَنَّهُ لَيْسَ بَعْدَ حَكْمِ اللهِ تَعَالى إلا حُكْمَ الْجَاهِليةَ الْمُوضِّحُ أَنَّ القَانُونِيُّينَ في زُمْرَةِ أَهْلِ الْجَاهِلَيةَ شَاءوُا أَمْ أَبَوا بَلْ هُمْ أَسْوَأُ حَالاً مِنْهُمْ وَأَكْذَبُ مِنْهُم مَقَالاً ذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِليةِ لا تَنَافُسَ لَدَيْهم حَولَ هَذَا الصَّدَدْ.
وَأَمَّا القَانُونِيُّونَ فَمُتَنَاقِضُونَ حَيْثُ يَزْعُمُونَ الإِيمَانَ بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسولُ صلى الله عليه وسلم وَيُنَاقِضُونَ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً، وَقَدْ قَالَ اللهُ في أمْثَالِ هَؤُلاءِ: {أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً}.
ثُمَّ انْظُر كَيْفَ رَدَّتْ هَذِهِ الآيَةُ الكريمةُ على القَانُونِيَّينَ ما زَعَمُوُهُ مِنْ حُسْنِ زُبَالةِ أَذْهَانِهِمْ وَنُحَاتَةِ أَفْكَارِهِمْ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَل: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}.
قَال الحَافِظُ بن كَثِيرٍ في تَفْسِيرِ هَذِين الآية: يُنْكِرُ تَعَالى عَلى مَنْ خَرَجَ مِنْ حُكْمِ اللهِ الْمُشْتَمِلُ عَلَى كُلِّ خَيْرٍ النَّاهِي عَنْ كُلِّ شَرٍّ وَعَدلَ إلى مَا سِوَاهُ في الآرَاءِ وَالأَهْوَاءِ وَالاصْطِلاحَاتِ التِي وَضَعَها الرِّجَالُ بِلا مُسْتَنَدٍ مِنْ شَرِيعَةِ اللهِ كَمَا كَانَ أَهْلُ الجاهِليةَ يَحْكُمونَ بِهِ مِنَ الضَّلالاتِ وَالْجَهَالاتِ مِمَّا يَضَعُونَهُ بآرَائِهِمْ وَأَهْوَائِهِمْ وَكَمَا يَحْكُمُ بِهِ التَّتَارُ مِنْ السِّيَاسَاتِ الْمَلَكِيّةِ التِي يُقَدّمُونَها عَلَى الْحُكْمِ بِكِتَابِ اللهِ وَسُنَّة رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم.
فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ يَجِبُ قِتَالَهُ حَتَّى يَرْجَعُ إلى حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ فَلا يُحَكِّمُ سِوَاهُ في قَلِيلٍ وَلا كَثيرٍ قَالَ تَعَالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} وَعَنْ حُكْمِ اللهِ يَعْدِلُونُ {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}، أيْ: وَمَنَ أَعْدَلُ مِن اللهِ في حُكْمِهِ لِمَنْ عَقَلَ مِنْ اللهِ شَرْعَهُ وآمَنَ بِهِ وَأَيقَنَ وَعَلِمَ أَنَّ اللهَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ مِنْ الوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا فَإِنَّهُ تَعَالى العَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ القَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ العَادِلُ فِي كُلِّ شَيْءٍ.
وَقَالَ تَعَالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}، {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
فَانْظُرْ كَيْفَ سَجَّلَ تَعَالى عَلَى الحَاكِمِينَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهِ بالْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالفِسْقِ وَمِنَ الْمُمْتَنَعِ أَنْ يُسَمِّي اللهُ سُبْحَانَهُ الحاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرًا وَلا يَكُونُ كَافِرًا بَلْ هُوَ كَافر مُطْلَقًا إِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ وَإِمَّا كُفْرُ اعْتِقَاد.
وَمَا جَاءَ عَنْ ابنِ عَبَّاسٍ في تَفْسِير هَذِهِ الآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الحَاكِمَ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللهُ كَافِرٌ إِمَّا كُفْرُ اعْتِقَادٍ نَاقِلٍ عَنْ الْمِلَّةِ وَإِمَّا كُفْرُ عَمَلٍ لا يَنْقُلِ عَنْ الْمِلَّةِ.
قَالَ: وَهَذِهِ الْمَحَاكِمُ الآن في كَثِيرٍ من أَمْصَارِ الإسْلامِ مُهَيَّأةٌ مَفْتُوحَةُ الأبْوَابِ وَالنَّاسُ إليها أَسْرَابٍ إثْرَ أَسْرَابٍ يَحْكُم حُكَّامُهَا بَيْنَهُمْ فِيمَا يُخَالِف حُكْمَ الكِتَابِ وَالسُّنةِ مِنْ أَحْكَامِ ذَلِكَ القَانُونِ وَتُلْزِمُهُمْ بِهِ وَتَحْتمهُ عَلَيْهم فأيُّ كُفْرٍ فَوقَ هَذا الكُفْرِ وَأيُّ مُنَاقَضَةٍ لِلشَّهَادَةِ بَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسَولُ الله بعدَ هَذِهِ الْمُنَاقَضَةِ نَسْأَلُ الله العِصْمَةَ عَنْ جَمِيعِ الْمَعَاصِي وَأَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى قَوْلِهِ الثَّابِتُ في الحياة الدُّنْيَا وفي الآخِرَةِ. اهـ.
وَمِمَّا قِيلَ فِي الحَثِّ عَلَى التَمَسُّكِ بِالقُرآنِ الكَرِيمِ مَا قَالَهُ الصَّنْعَاني:
وَلَيْسَ اغْتِرَابُ الدِّينِ إلا كَمَا تَرَى ** فَهَلْ بَعْدَ هَذا الاغْتِرَابُ إِيَابُ

وَلَمْ يَبْقَ لِلرَّاجِي سَلامَةَ دَينِهِ ** سِوَى عُزْلَةٍ فِيهَا الْجَلِيسُ كِتَابُ

كِتَابٌ حَوَى كُلَّ العُلومِ وَكُلَّمَا ** حَوَاهُ مِنْ العلمِ الشَّريفِ صَوابُ

فَإِنْ رُمْتَ تَارِيخًا رَأَيْتُ عَجَائِبًا ** تَرَى آدَماً إذْ كَانَ وَهُوَ تُرَابُ

وَلاقِيتَ هَابِيلاً قَتِيلَ شَقِيقَهِ ** يُوَارِيهِ لَمَّا أَنْ رَآهُ غُرَابُ

وَتَنْظُرُ نُوحًا وَهُوَ في الفُلْكِ قَدْ طَغَى ** عَلَى الأَرْضِ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ عُبَابُ

وَإِنْ شِئْتَ كُلَّ الأَنْبِيَاءِ وَقَوْمَهُمْ ** وما قَالَ كُلُّ مِنْهُمُوا وَأَجَابُوا

وَجَنَّاتِ عَدْنٍ حُورَهَا وَنَعِيمَا ** وَنَارًا بِهَا لِلْمُشْرِكِينِ عَذَابُ

فَتِلْكَ لأَرْبَابِ التُّقَاءِ وَهَذِهِ ** لِكُلِّ شَقِي قَدْ حَوَاه عِقَابُ

وَإِنْ تُرِدِ الوَعْظَ الذِي إِنْ عَقَلْتَه ** فَإِنَّ دُموعَ العَينِ عَنْهُ جَوَابُ

تَجِدْهُ وَمَا تَهْوَاهُ مِنْ كُلِّ مَشْرَبٍ ** وَلِلرُّوحَ مِنْهُ مَطْعَمٌ وَشَرَابُ

وَإِنْ رُمْتَ إبْرَازَ الأَدِلَّةِ في الذِي ** تُرِيدُ فَمَا تَدْعُو إِلَيْهِ تُجَابُ

تَدُلُّ عَلَى التَّوْحِيدِ فِيهِ قَوَاطِعٌ ** بِهَا قُطِّعَتْ لِلْمُلْحِدِينَ رِقَابُ

وَمَا مَطْلَبٌ إِلا وَفِيهِ دَلِيلُهُ ** وَلَيْسَ عَلَيْهِ لِلذَّكِي حِجَابُ

وَفِيهِ الدَّوَاءُ مِنْ كُلَّ دَاءٍ فَثِقْ بِهِ ** فَوَالله ما عَنْهُ يَنُوبُ كِتَابُ

يُرِيكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَغَيْرُه ** مَفَاوِزُ جَهْلٍ كُلَّهَا وَشِعَابُ

يَزِيدُ عَلى مَرِّ الجَدِيدِينِ جِدَّةً ** فَأَلْفَاظُهُ مَهْمَا تَلَوتَ عَذَابُ

وَآيَاتِهِ فِي كُلِّ حِينٍ طَرِيَّةٌ ** وَتَبْلَغُ أَقْصَى العُمْرِ وَهِيَ كِعَابُ

وَفِيهِ هُدَىً لِلْعَالَمِينَ وَرَحْمَةٌ ** وَفِيهِ عُلُومٌ جَمَّةٌ وَثَوَابُ

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا لِكِتَابِكَ مِنْ التَّالِينِ وَلكَ بِهِ مِنْ العاملينَ وَبِمَا صَرَّفْتَ فِيهِ مِنْ الآيات مُنْتَفِعينِ وَإلى لَذِيذِ خِطَابِه مُسْتَمِعينَ وَلأوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ خَاضِعين وَالأَعْمَالِ مُخْلِصِين، وَاغْفِرَ لَنَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِجَمِيعَ الْمُسْلِمِينَ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ والْمَيِّتِينَ بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.